استيقظت حبيبة في الشقة الصغيرة التي تشاركها مع صديقتها الامريكية مكسيكية الاصل تيا في احد احياء مدينة (-----) الامريكية ، لم تكن تريد ان تستيقظ و كأن ثقل يجثو علي صدرها ، لم تكن تصدق ان المدة قرُبت علي الانتهاء وعليها العودة الي مصر. مدة الفيزا اوشكت علي الانتهاء و ي قد بداءت لتوها التأقلم علي الحياة هنا ، بل احبتها ! هنا هي حرة مستقلة و معتمدة علي نفسها ، فهي تعمل وتحصل علي راتب اسبوعي ، تشتري لنفسها ما تشاء و تستمتع بالحياة الحرة ، بالرغم من ان لها عدد محدود من الاصدقاء معظمهم من اجناس مختلفة و لكنهم يملؤون حياتها ضحكا ومرحا. زبائنها الدائمين في محل القهوة الشهير حيث تعمل صارت تعرفهم بالاسم و يعطونها بقشيشا كبيرا. كما انها تستمتع بحصص "فن الكتابة" حيث سجلت اسمها منذ عدة اشهر و تحضر بانتظام وقد بداءت في الكتابة بشكل لا بأس به ، بل هي اكثر مجموعتها تفوقا. لم عليها ترك كل هذا والعودة الي حيث لا يوجد وظائف و كل شيء غالي و حيث لا يوجد اي حرية ، الي حيث تتم معاملتها كمواطن درجة ثانية لمجرد انها انثي. ففي مصر ام الدنيا يكون الحال اما ان تمارس حريتها في مجلات الحياة المختلفة فتكون " دي أوية وملهاش حاكم" في نظر البعض ، او "دي منحرفة ومفيش حد يلمها" في نظر البعض الاخر، فتتحول الي في نهاية الامر الي " ياعني دي عاتس" في نظر الكل . او تكون الفتاة الصالحة التي تسمع كلام كل من حولها ثم تترقي فتكون الزوجة البائسة المكبوتة الموشكة علي الانفجار. لما عاليها العودة الي كل ذلك؟؟ هاهي هنا حرة طليقة ليس عليها اي رقيب و بالرغم من ذلك فهي لم ترتكب اي شيء مخل بدينها او تربيتها ، لديها اصدقاء من الذكور و لكن كلهم يكنون لها كل الاحترام ، حتي من حاولوا التقرب منها عاطفيا صدتهم بلطف فتقبلوا بلطف وسلاسة. هي لم تحتسي الخمر ابدا علي الرغم ان ذلك هو شيء اساسي في حياة كل من حولها في تلك البلد الاجنبية. و علي الرغم من انها في وسط هذا المجتمع الغربي تعتبر غريبة العادات و الاطوار ، الا ان احدا لم يعلق اهمية علي ذلك واصدقائها يتقبلونها كما هي، علي عكس ما كانت لتواجه من ظنون و اتهامات و نبذ اذا ما حاولت ان تفعل اي شيء مختلف عن ما هو معتاد في بلدها ام الدنيا. لا...لا... هي لا يمكن ان تعود ابدا...
افاقت من افكارها علي صوت تيا زميلة السكن و صديقتها تقول بصوت مرح و انجليزية يغلبها الطابع اللاتيني اللذيذ: " صباح جميل"
فردت حبيبة بصوت نائم و كئابة : "لا يوجد ما هو جميل"
قفزت تيا فوقها علي السرير و جذبتها من يدها وقالت بحماس " لدي حل لمشاكلك! هيا انهضي يا كسولة "
بلفعل لم ترغب حبيبة في النهوض، فالنهوض معناه يوم جديد ، و يوم جديد معناه يوم اقل في الايام الباقية علي انتهاء مدة الفيزا... وتلك المجنونة التي تجلس فوقها ماذا تريد الان ... تقول وجدت الحل... اكيد ستقترح ان الحل في الخروج و التسلية مع شاب لطيف و وسيم و ربما ايضا اختارت ذلك الشاب بالفعل. هكذا هي تيا دائما ترغب بشدة ان تتعرف حبيبة الي شاب و تخرج معه بل احيانا كثيرة فاجأتها بشخص لكي تتعرف عليه و تظل تسرد لها اشعارا في محاسنه و جماله.
قالت حبيبة متململة :" تيا انا لست في حالة مزاجية جيدة"
تيا :" انتظري حتي تسمعي ! لقد قابلت ذلك الشخص الـ.."
كما توقعت حبيبة بالضبط .. انه شخص!
فقالت مقاطعة وهي تدفعها من فوقها :" تياااا! لست بحاجة الي "شخص" الان!!"
تيا: " فقط استمعي! ذلك الشخص يعرف ناس يقبلون بالزواج من اناس اخرون مقابل المال، فقط ليحصلوا علي الجرين كارد، لذا فهو سيعثر لك علي شخص تدفعين له و يتزوجك زواج صوري تحصلي به علي الاقامة فتبقي هنا كما تشائي، و خمني ماذا ؟! سيأتي به مسلم ايضا! "
لم يكن رد فعل حبيبة كما توقعت تيا ، فهي لم تصرخ فرحا او تقفز عاليا كما تفعل عادة عندما تفرح، فقد كانت حبيبة تركز جيدا فيما سمعته ... زواج!... اتزوج!
مر في مخيلتها عدة افلام امريكية تناولت تلك الفكرة، كيف تزوج اشخاص بعضهم فقط من اجل حصول علي الجرين كارد، كانت دائما تدور في اطار كوميدي رومانسي... تري هل تصبح حياتها كفيلم كوميدي رومانسي ام ستنقلب الي دراما؟!
وماذا ستقول الي عمها في مصر؟ "عمي العزيز ، تزوجت في امريكا ... وداعا"؟! هو طبعا باي حال لم يكن ليأباه ولو ماتت حتي. فبعد وفاة ابيها وهي مازالت في المدرسة لم يكن يسأل عنها هي وامها الا كل فترة طويلة ، ومن ترتيبات الله سبحانه و تعالي ان امها كانت تملك ميراثا كان كافيا للعيش حياة كريمة بل اقرب الي رغدة ، فلم يحتجن قط الي احد وخاصة الي عمها الوحيد. ولكن عندما توفت امها فجأة و هي كانت مازالت تدرس في الجامعة ، ظهر عمها فجأة واصبح وصيا عليها و علي اموالها و تحكم في حياتها ودس انفه في كل شؤونها بحجة انها يتيمة الان و بحاجة اليه ليدبر لها امور اموالها، ظلت تحت حكمه ثلاث سنوات حتي اتمت الـ21 عاما، فاخذت ما تبقي من اموال امها ودبرت امورها لكي تسافرامريكا بحجة دراسة التسويق في جامعة هناك، وبالفعل رغم اعتراضات عمها و رغم انفه فرت من بلدها التي ليس لها فيها احد واتجهت الي بلد الحلم علها تجد مستقبل مشرق وتحقق امال عريضة.
كل عبارا ت الافلام العربي القديمة من "امال عريضة " و "مستقبل مشرق "، محت علي ارض الواقع. فقد تركت دراسة التسويق بعد اول سيمستر، قالت لنفسها " ماحستش نفسي فيه" ، لم يكن لها اي اصدقاء، كما انها تركت الجامعة و بالتالي كان يجب ان تترك السكن الجامعي . وفوق كل ذلك هي حصلت علي فيزا لمدا عام فقط و هي مدة دراسة تلك الديبلومة .فهل ستعود زي خيبتها الي ام الدنيا المحروسة؟ قررت ان تمضي احلي ايام حياتها في تلك السنة قبل ان ترحل.
كان لابد لها ان تعمل و بالفعل عثرت علي عمل بسهولة في اشهر محل قهوة في المنطقة ، ثم اجرت تلك الشقة المشتركة مع تيا و عندما استقرت؛ قررت اخذ دروس في الادب و الكتابة . و اصبح لها اصدقاء و حياة سعيدة و سلسة بدون تعقيدات.
احبت حياتها هنا ، بالرغم من انها غير ما خططت له من البداية ، الا انها تعيش الحلم الان ، تلك الحياة التي طالما راتها في المسلسلات الجنبية وتمنتها . فهل تترك كل هذا و تعود؟! الي من ؟ الي عمها ؟ لا يوجد شخص واحد علي ارض مصر يهتم بعودتها. حتي ان تزوجت هنا لن تجد في مصر من يفرح لها او يغضب منها ، حتي عمها؛ هو غاضب في جميع الاحوال لسحبها لاموالها و سفرها رغم انفه ، كل ما يهمه هو اموالها .
نظرت حبيبة لتيا و جدتها مازالت تتحدث عن فكرتها بمنتهي الحماس و علي الرغم من ان حبيبة كانت غارقة في التفكير و لم تكن تستمع الانها قد قررت ان تنتبه ... تنتبه جيدا... لان ما يقال الان قد يكون املها الوحيد في البقاء في ارض الحلم امريكا ، فهي ستفعل ما يلزم حتي لا تعود... لن تعود الي مصر ابدأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق